فصل: اختلاف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن للميت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.كراهية أن يقول نسيت آية كذا:

يكره أن يقول نسيت آية كذا، بل يقول أنسيتها؛ لأن الأولى تفيد التقصير في حق القرآن بخلاف الثانية فإنها لا تشعر بذلك، والأصل في ذلك ما رواه الشيخان في صحيحهما عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل نسي» أي: بضم النون وتشديد السين المكسورة مبنيا للمجهول هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في الغريب بعد قوله: كيت وكيت ليس هو نسي ولكنه نسى، الأول بفتح النون، وتخفيف السين، والثاني بضم النون وتثقيل السين، هكذا قال الحافظ في الفتح، وذكر القرطبي أنه رواه بعض رواة مسلم مخففا وقال: رواية التثقيل معناه أنه عوقب بوقوع النسيان عليه لتفريطه في معاهدته، واستذكاره، ومعنى التخفيف أن الرجل ترك غير ملتفت إليه، وهو كقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، أي تركهم في العذاب، أو تركهم من الرحمة.
وقد بين الحافظ في الفتح أن النهي عن قول نسيت آية كذا وكذا ليس للزجر عن هذا اللفظ، بل للزجر عن أسباب تعاطي النسيان المقتضية لقول هذا اللفظ، أقول: أي: أنه من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب، وهو أسلوب معروف في اللغة العربية، قال الحافظ: ويحتمل أن ينزل المنع والإباحة على حالتين:
1- فمن نشأ نسيانه عن اشتغال بأمر ديني كالجهاد لم يمتنع عليه قول ذلك لأن النسيان لم ينشأ عن إهمال ديني، وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة النسيان إلى نفسه كما ورد في الحديث الصحيح ويكون النهي للتنزيه.
2- ومن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر دنيوي، ولاسيما إن كان محظورا امتنع عليه لتعاطي أسباب النسيان.

.اختلاف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن للميت:

اختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن للميت، قال السيوطي:
الأئمة الثلاثة على وصول ثواب القراءة للميت، ومذهبنا- أي الشافعية- خلافه لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى} [النجم: 39].
وإليك ما ذكره الإمام الآلوسي في تفسيره لهذه الآية فقد ذكر كلاما حسنا في هذا المقام قال: ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أيّ عمل كان لغيره لا ينجعل، ويلغو جعله- غير تام.
وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات، وهو مذهب الإمام مالك، بل قال الإمام ابن الهمام- هو من أئمة الحنفية- إن مالكا، والشافعي، لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة، بل غيرها كالصدقة والحج، وفي الأذكار للنووي عليه الرحمة- المشهور من مذهب الشافعي رضي الله عنه وجماعة أنها لا تصل، وذهب أحمد بن حنبل، وجماعة من العلماء، ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه:
اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة.
قال الآلوسي: وفي القلب منه شيء ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة، أما إذا كانت بها كما يفعل الناس اليوم، فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرءوا لموتاهم؛ فيقرءون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها، إذ لا ثواب لها ليصل، لحرمة أخذ الأجرة على قراءة القرآن، وإن لم يحرم لتعليمه، كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين ابن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى، قال: وفي الهداية من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره، ولو صلاة، وصوما عند أهل السنة والجماعة، وفيه ما علمت مما مر آنفا، وقال الخفاجي هو- أن كلام صاحب الهداية- محتاج إلى التحرير، وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فتسقط عمن لزمته بفعل غيره سواء كان بإذنه أم لا بعد حياته، أم لا، فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة أما الصوم فلا، وما ورد في حديث: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوي- هو من محدثي فقهاء الحنفية- إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وليس الكلام في الفدية، وإطعام الطعام فإنه بدل، وكذا إهداء الثواب سواء أكان بعينه أو مثله، فإنه دعاء، وقبوله بفضل الله عز وجل كالصدقة فاعرفه انتهى ما ذكره الآلوسي، وفي هذا القدر كفاية في هذه المسألة التي يكثر فيها السؤال دائما.
والحق أنه لا خلاف في الدعاء والصدقة لورود الأحاديث الصحيحة الكثيرة فيهما، وكذلك الحج عند الجمهور وأما الصوم ففيه الخلاف وكذا الصلاة.

.حكم الاقتباس وما جرى مجراه:

ومن المسائل المهمة معرفة حكم الاقتباس من القرآن، وإليك خلاصة ما ذكره العلماء في هذا.
قال الإمام السيوطي في الإتقان: الاقتباس تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه بأن لا يقال فيه: قال الله تعالى ونحوه، فإن ذلك حينئذ لا يكون اقتباسا، وقد اشتهر عن المالكية تحريمه، وتشديد النكير على فاعله، وأما أهل مذهبنا- يريد الشافعية- فلم يتعرض له الأقدمون، ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشعراء قديما وحديثا.
وقد تعرض له جماعة من المتأخرين؛ فسئل عنه الشيخ عز الدين بن عبد السلام فأجازه واستدل بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله في الصلاة وغيرها:
«وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» وقوله:
اللهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين، واغنني من الفقر.
وفي سياق كلام لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} وفي آخر حديث لابن عمر: قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وهكذا كله يدل على جوازه في مقام المواعظ، والثناء على الله، والدعاء وفي النثر، ولا دلالة فيه على جوازه في الشعر، وبينهما فرق، فإن القاضي أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه في الشعر مكروه، وفي النثر جائز.
واستعمله أيضا في النثر الإمام القاضي عياض في مواضع من خطبة كتابه الشفا.
وقال الشرف إسماعيل بن المقري اليمني صاحب مختصر الروضة، في شرح بديعته ما كان منه في الخطب، والمواعظ، ومدحه صلى الله عليه وسلم وآله، وصحبه، ولو في النظم فهو مقبول، وغيره مردود.
وينبغي أن يلحق بذلك مدح الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين والسلف الصالحين والعلماء العاملين.
وقال: في شرح بديعته: الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح ومردود: فالأول: ما كان في الخطب، والمواعظ، والعهود.
والثاني: ما كان في الغزل، والرسائل، والقصص.
والثالث: على ضربين أحدهما، ما نسبه الله إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية عماله فكتب {إن إلينا إيابهم ثم إنا علينا حسابهم} [الغاشية: 25، 26].
والآخر: تضمين آية في معنى هزل ونعوذ بالله من ذلك كقوله أحد الشعراء:
أرخى إلى عشاقه طرفه ** هيهات هيهات لما توعدون

وردفه ينطق من خلفه ** لمثل هذا فليعمل العاملون

قال السيوطي وهذا التقسيم حسن جدّا، وبه أقول، وأنا أيضا استحسنه جد الاستحسان، وبه أقول.
وقد ذكر الشيخ تاج الدين بن السبكي في طبقاته في ترجمة الإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي من كبار الشافعية، وأجلائهم أن من شعره قوله:
يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف ** ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف

أبشر في قول الله في آية إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف

ثم عقب فقال: استعمال مثل الأستاذ أبي منصور مثل هذا الاقتباس في شعره له فائدة فإنه جليل القدر، والناس ينهون عن هذا، وربما أدى بحث بعضهم إلى أنه لا يجوز، وقيل إن ذلك إنما يفعله الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون ويثبون على الألفاظ وثبة من لا يبالي، وهذا هو الأستاذ أبو منصور من أئمة الدين، وقد فعل هذا، وأسند عنه هذين البيتين الأستاذ أبو القاسم بن عساكر.
قال الإمام السيوطي معقبا: ليس هذان البيتان من الاقتباس لتصريحه بقوله الله، وقد قدمنا أن ذلك خارج عنه.
وأما أخوه الشيخ بهاء الدين فقال في عروس الأفراح: الورع اجتناب ذلك كله، وأن ينزه عن مثله كلام الله ورسوله.
ثم قال السيوطي: رأيت استعمال الاقتباس لأئمة أجلاء منهم الإمام أبو القاسم الرافعي وأنشده في أماليه، ورواه عنه أئمة كبار.
الملك لله الذي عنت الوجو** هـ له، وذلت عنده الأرباب

متفرد بالملك والسلطان قد ** خسر الذين تجاذبوه وخابوا

دعهم وزعم الملك يوم غرورهم ** فسيعلمون غدا من الكذاب

وروى البيهقي في شعب الإيمان عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي قال أنشدنا أحمد بن يزيد لنفسه:
سل الله من فضله، واتقه ** فإن التقى خير ما نكتسب

ومن يتق الله ينع له ** ويرزقه من حيث لا يحتسب

وأنا أميل إلى عدم استعماله في الشعر، حتى لا يتوهم متوهم أن في القرآن شعرا، وإن كان فعله هؤلاء الأئمة الكبار.
وأختم هذا الفصل القيم الذي أمتعنا به الإمام السيوطي في إتقانه بأن الكلمة من القرآن الكريم أو الآية يقتبسها المقتبس في كلامه مهما بلغ هذا الكلام من الفصاحة والبلاغة فتضفي على الكلام نورا وبهاء، وروعة وفخامة، وتكون متميزة عما قبلها وما بعدها تميز الدرة اليتيمة الثمينة بين حبات العقد، والجوهرة المتلألئة بين الحصى وحبات الرمل، وكالشمس إذا طلعت كسفت بقوة ضوئها ضوء النجوم والكواكب، وهذا سر من أسرار كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه ولا تفنى أسراره.